تأمّلات نحويّة في وقفتين من الوقفات الهبطيّة
الخلاصة
تختلف المعاني المستفادة من التراكيب اللغوية حسب الوقف والابتداء لتعانق المعاني، وعليهما يتوقف صحة المعنى المراد أو فساده، أو على الأقل توسُّعُه وتنوُّعُه؛ فقد تفيد جملة معان لا يتحدد المراد منها إلا بالسياق، والوقفِ والابتداء. والقرآنُ الكريم غنيّ بذلك، فلا تكاد تجد آية من كتاب الله إلا ويتعدد معناها حسب الوقف والابتداء، وتتسع دائرة المعاني كلما اتسعت دائرة التلاقي والاختلاف، فقد يفيد الوصل ما لا يفيده الوقف، فيكون في التركيب معان يستطيع المتكلم البليغ إرادتها جميعا، وأبلغ الكلام كلامُ الله، فقد اتسعت فيه المعاني بالوقف والابتداء، فضلا عن دلالة الألفاظ والتراكيب والسياق، نحو قوله -تعالى-: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾، فالوقف إما أن يكون على «فيه» والابتداء بـ«هُدى»، أو على «رَيْب» والابتداء بـ«فيه»، اعتمادا على أوجه إعراب الجارّ والمجرور.
والإمام الهبطيّ (ت930) -رحمه الله- أحد الأئمة المبرزين الذين خاضوا غمار هذا العلم وتألقوا فيه، فقد وقّف القرآن كاملا، وكانت لوقفاته لمسات جميلة تدل على تضلعٍ في اللغة، ورهافةٍ في تذوق المعاني، وتلمسٍ للدلالة، ولقد وقفتُ على عدة اختيارات وقفية لم أتبين مراده منها إلا بعد محاولات في تدبر المعنى المراد، مستعينا بتفاسير العلماء ومستفيدا منها، وقد استحسنتُ بعض تلك الوقفات لبروز المعاني الدقيقة فيها.
ومع شهرة الإمام الهبطيّ بين أوساط القرّاء فإنه قد هُضم حقُّه في كتب تراجم العلماء، إذ لم تذكر عنه كتب التراجم في دول المغرب العربي إلا النزر اليسير، فقد اقتصرَتْ جلها على اسمه ووفاته، مع أنه لا يكاد يطبع مصحف في بلاد المغرب العربي إلا وتكون وقفاته معتمدة على وقوف الهبطي!
ولِـما لوقفات الهبطي من غرابة وصعوبة في الوصول إلى الأصول اللغوية التي بنيت عليها كانت فكرةُ هذا البحث، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في تناول وقفتين منها، ومحاولة بيان أصولها النحوية، وسمّيتُ البحث بـــ«تأملات نحوية في وقفتين من الوقفات الهبطية».
وما هاتان الوقفتان إلا أنموذج لتك الوقفات، وما تناولي لها إلا على سبيل التمثيل لا الحصر.
وأسأل المولى عز وجل التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.