العقوبات والغرامات الماليّة عند المالكيّة ( تأصيل وتطبيق)
الخلاصة
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون الأنفسُ متباينةً والعقولُ مختلفة؛ منها ما يذعن لحكم الله وأمره، ويقف عند حدوده، ويراقبه في سرّه وعلانيته، ومنها ما لا يردُّه إلى الجادّة إلّا العقاب، فلولا الحدود والتّعازير لما سلم النّاس من شرّه، ولعظُمتْ مصيبة المجتمع بإفساده.
كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أنْ جعل حياةَ النّاس لا تستقيم إلّا براعٍ يسوسهم، ويتولّى مراقبةَ معلاملاتهم، وخوّله الشّارعُ إيقاع العقوبة على المعتدى المخالف. إلّا أنّ الشّارع الحكيم لم يترك أمر العقوبات لهوى الحاكم وشهوته، بل جعل للعقوبات لا يجوز للحاكم تجاوزها، وإلّا كان ظالماً آثماً.
والعقوبات الّتي جاءت في شريعة الإسلام منها ما هو محلُّ اتّفاق لورود النّصّ بها صريحاً غير محتمل، ومنها ما هو محلُّ اجتهاد؛ لاختلاف الأدلّة وتنازعها. ومن العقوبات المختلَف فيها بين الفقهاء: العقوبات الماليّة، وهي مسألة مهمّة جدّاً؛ لأنّ إطلاق القول بجوزاها يفتح الباب أمام الظّلمة من الحكّام لأكل أموال النّاس بالباطل، ويكون سبب لفشوّ الرّشوة والفساد في المجتمع. وبالمقابل فإنّ القولَ بمنعها مطلقاً قد يكون سبباً في انتشار الغشّ والخداع والغبن من التّجّار والصّنّاع.
ومن المذاهب الّتي نحت منحى التّوسُّط في هذه المسألة مذهب الإمام مالك، حيث أعمل نصوص الجواز في محالّها بضوابطها، وأعمل نصوص المنع في مواطنها. فرأيتُ أن أبحث هذه المسألة؛ لتسليط الضّوء عليها، وإيضاح مذهبِ مالكٍ فيها: تأصيلاً وتطبيقاً.