الطّفرة الشّاطبيّـة في الفكر الأصولـيّ
الخلاصة
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
فإنّ أصول الفقه الإسلاميّ غَدَقٌ بعيد الأنحاء، متنوّع المشارب، متجدّدٌ لا يَنضَب، يقف من أراد الله به خيراً على شاطئه، يتزود وسع طاقته، ويَمُدُّ مَن خلفه حسب فهمه وقدرته ومَدرَكِه. ونظرًا لاختلاف المدارك ومقدار التّعمُّق في أصول الفقه واستحضار قواعده وأدلته في الفروع؛ تفاوتت الأفهام في النّصوص، واختلف العلماء، ونشأت المدارس الفقهية، وكان لكلّ مدرسةٍ أعلامُها وأصولُها الّتي تقوم عليها.
وقد مرّ أصول الفقه بعدة مراحل في تاريخه؛ بدءاً من تدوينة الإمام الشّافعيّ الّتي اتّسمت بمحاولة الجمع بين مدرسة الحديث ومدرسة الرّأي، وكانت مباحثها المحورَ الرَّئيس الذي تدور حوله كتب الأصول، إلى أن دخل القرن الرّابع الهجريّ الّذي نما فيه علم الأصول، واتّضحت مباحثه، ودُوّنت المصادر الأساس لفكره، وامتزجت مباحثه بعلم الكلام؛ حتّى عُدّت هذه المرحلةُ الفترةَ الذّهبية في تاريخ التّصنيف الأصوليّ.
وقد تأثّر الإمام الشّاطبي بكل هذه الّتفاعلات في النّتاج الأصوليّ؛ فكان منفتحاً على المدارس الأصوليّة ومظانّها، غير أنّ ما يضفي الأهميّة على الفكر الشّاطبيّ هو تحرُّره من أغلال هذه المدارس -بعد دراستها دراسةً نقديّة- ما جعله يبتكر طريقة ومنهجيّة خاصّة في التأليف الأصوليّ، تُعنَى بمقاصد التّشريع وأسراره، ورعاية المصالح بهيكلة جديدة تباين التّصنيف الأصوليّ المنصرم.
وتتركّز مشكلة هذا البحث في دراسة جوانب من فكر الشاطبيّ الأصوليّة، حيث طرح في موافقاته بعض النّظريات الأصوليّة الجديرة بالبحث والدراسة، اخترت بعضها في هذا البحث للخروجِ بإضاءة حول فكر الشّاطبيّ الأصوليّ الّذي بناه على نظرية قطعيّة علم الأصول، وإبرازِ عقليّته الفذّة من خلال الهيكلة التي ابتدعها في التّصنيف الأصوليّ، والتي راعى فيها البناءَ على أصول قطعية وربطَها بالمقاصد.